فصل: 52- باب فضل الرجاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تطريز رياض الصالحين



.52- باب فضل الرجاء:

قَالَ الله تَعَالَى إخبارًا عن العبدِ الصالِحِ: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر: 44، 45].
يُخبر تعالى عن مؤمن آل فرعون حين دعاهم إلى التوحيد، وتصديق موسى، ونهاهم عن الشرك، فتوعَّدوه أنَّه قال: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر: 44]. أي: وأتوكل عليه، وأستعين، فيعصمني عن كل سوء، {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}، فيهدي من يستحق الهداية ويضل من يستحق الإضلال، وله الحجة البالغة، والحكمة التامة، {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا}، ما أرادوا به من الشر.
قال قتادة: نجا مع موسى وكان قبطيًّا.
440- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ الله- عز وجل: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنا معه حَيْثُ يَذْكُرنِي، وَاللهِ، للهُ أفْرَحُ بِتَوبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ بالفَلاَةِ، وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِذَا أقْبَلَ إِلَيَّ يَمْشِي أقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ» متفقٌ عليه، وهذا لفظ إحدى روايات مسلم. وتقدم شرحه في الباب قبله.
ورُوِيَ في الصحيحين: «وأنا معه حين يذكرني» بالنون، وفي هذه الرواية «حيث» بالثاء وكلاهما صحيح.
قوله عزَّ وجل: «أنا عند ظن عبدي بي»، أي في الرجاء، وأمل العفو، «وأنا معه»، أي: بالرحمة، والتوفيق، والإِعانة، والنصر، «حيث ذكرني في نفسه أو في الملأ».
وفي الحديث: لطف الله بعباده، وفرحه بتوبتهم، وأن من تقرب إليه بطاعته، تقرب إليه بإحسانه، وفضله، وجزائه المضاعف.
441- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلَ مَوْتِه بثَلاثَةِ أيّام، يقولُ: «لا يَمُوتَنّ أحَدُكُمْ إلا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بالله- عز وجل». رواه مسلم.
في هذا الحديث: الحث على حسن الظن بالله تعالى، والتحذير من القنوط خصوصًا عند الخاتمة، قال الله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، وقال الشافعي- رحمه الله تعالى- في مرض موته:
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي ** جعلت الرجَاء مني لعفوك سُلَّما

تعاظمني ذنبي فلما قرنته ** بعفوك ربي كان عفوك أعظما

442- وعن أنس رضي الله عنه قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قَالَ الله تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، إنَّكَ ما دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغت ذُنُوبُك عَنَانَ السماءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلا أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايا، ثُمَّ لَقَيْتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لأَتَيْتُكَ بقُرَابِها مَغْفِرَةً». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ).
«عَنَانُ السَّماءِ» بفتح العين، قيل: هو مَا عَنَّ لَكَ مِنْهَا، أيْ: ظَهَرَ إِذَا رَفَعْتَ رَأسَكَ، وقيل: هو السَّحَابُ. وَ«قُرابُ الأَرض» بضم القاف، وقيل: بكسرها، والضم أصح وأشهر، وَهُوَ: مَا يقارب مِلأَهَا، والله أعلم.
في هذا الحديث: بشارة عظيمة، وحلم، وكرم عظيم.
قال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وأسواقكم، ومجالسكم، وأينما كنتم، فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة.
وقال قتادة: إن هذا القرآن يدّلكم على دائكم ودوائكم، فأمَّا داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار.
قال بعضهم:
أستغفر الله مما يعلمُ اللهُ ** إِنَّ الشقيَّ لَمن لا يرحمُ اللهُ

مَا أحلمَ الله عمن لا يراقبه ** كلٌّ مسيء ولكن يحلم اللهُ

فاستغفر الله مما كان من زلل ** طوبى لِمَنْ كف عما يكره اللهُ

طوبى لِمَن حسنت منه سريرته ** طوبى لِمَنْ ينتهي عما نهى الله

.53- باب الجمع بين الخوف والرجاء:

اعْلَمْ أنَّ المُخْتَارَ لِلْعَبْدِ في حَالِ صِحَّتِهِ أنْ يَكُونَ خَائفًا رَاجِيًا، وَيَكُونَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ سَواءً، وفي حَالِ المَرَضِ يَتَمَحَّضُ الرَّجاءُ، وقواعِدُ الشَّرْع مِنْ الكِتَابِ والسُّنَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ مُتظاهِرَةٌ عَلَى ذلك.
قَالَ الله تَعَالَى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرونَ} [الأعراف: 99].
وقال تَعَالَى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إلا القَوْمُ الكافِرُونَ} [يوسف: 87].
الخوف يزجر العبد عن المعاصي، والرجاء يبعثه على الطاعات فلا يأمن العقوبة، ولا يقنط من الرحمة.
وقال تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وَجُوهٌ} [آل عمران: 106].
أي: تبيض وجوه المؤمنين يوم القيامة، وتسوّد وجوه الكافرين.
وقال ابن عباس: تبيضُّ وجوه أهل السنَّة والجماعة، وتسودُّ وجوه أهل البدعة والفرقة.
وقال تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 165].
في هذا ترهيب وترغيب، وكل ما هو آت قريب.
وقال تَعَالَى: {إنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14].
الأبرار: الذين برُّوا وصدقوا في إيمانهم بأداء فرائض الله، واجتناب معاصيه، والفجار بضدِّ ذلك.
وقال تَعَالَى: {فَأمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 6- 9].
أي: من رجحت حسناته على سيِّئاته فهو من أهل الجنة، ومن رجحت سيِّئاته على حسناته فهو من أهل النار.
والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ معلومة. فَيَجْتَمعُ الخَوفُ والرجاءُ في آيَتَيْنِ مُقْتَرِنَتَيْنِ أَو آيات أَو آية.
قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].
443- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤمِنُ مَا عِنْدَ الله مِنَ العُقُوبَةِ، مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الكَافِرُ مَا عِنْدَ الله مِنَ الرَّحْمَةِ، مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أحَدٌ». رواه مسلم.
يشهد لهذا الحديث: قوله تعالى: {اعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] الآية.
444- وعن أَبي سعيد الخدرِيِّ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا وُضِعَتِ الجنازةُ واحْتَمَلَهَا النَّاسُ أَوِ الرِّجَالُ عَلَى أعناقِهِمْ، فَإنْ كَانَتْ صَالِحَةً، قالتْ: قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي، وَإنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ، قالتْ: يَا وَيْلَهَا! أَيْنَ يَذْهَبُونَ بها؟ يَسْمَعُ صَوْتَها كُلُّ شَيْءٍ إلا الإنْسانُ، وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ». رواه البخاري.
قولها: «قدموني قدموني»، هو اشتياق إلى ما أعده الله للمؤمن من نعيم القبر وما بعده، وقول الآخر: «يَا ويلها، أين يذهبون بها»، هو جزع وتحسر من الفاجر، ورهبة مما أُعد له من عذاب القبر وما بعده.
445- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجَنَّةُ أقْرَبُ إِلى أحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذلك». رواه البخاري.
فيه: أن الطاعة موصلة إلى الجنة، وأن المعصية مقربة إلى النار.
وفي الحديث الآخر: «إن الرجل يتكلم بالكلمة ما يظن أنْ يبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وأن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله يهوي بها في النار». فينبغي للمؤمن أن لا يزهد في القليل من الخير بالفعل والقول، وأن يجتنب الشر قليله وكثيره.

.54- باب فضل البكاء من خشية الله تَعَالَى وشوقًا إِليه:

قَالَ الله تَعَالَى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109].
أي: يزيدهم سماع القرآن إيمانًا وخضوعًا لله عزَّ وجلّ، كما قال تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58].
وفي الحديث: «حُرَّمت النار على ثلاثة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله».
وقال تَعَالَى: {أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} [النجم: 59، 60].
يخبر تعالى عن المشركين أنهم ينكرون القرآن، ويستهزؤون به، ولا يبكون، بخلاف المؤمنين، فإنهم إذا سمعوا القرآن زادهم إيمانًا واقشعرت جلودهم، ولانت قلوبهم، وبكوا لما فيه من الوعد والوعيد.
446- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأْ عليَّ القُرْآنَ» قلت: يَا رسول اللهِ، أقرأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! قَالَ: «إِنِّي أُحِبُّ أنْ أسْمَعَهُ مِنْ غَيرِي». فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سورةَ النِّسَاءِ، حَتَّى جِئْتُ إِلى هذِهِ الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤُلاءِ شَهيدًا} [النساء: 41] قَالَ: «حَسْبُكَ الآنَ». فَالَتَفَتُّ إِلَيْهِ فإذا عَيْنَاهُ تَذْرِفَان. متفقٌ عَلَيْهِ.
قال البخاري: باب البكاء عند القرآن، وأورد الحديث.
قال النووي: البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين، وشعار الصالحين.
قال الحافظ: بكى صلى الله عليه وسلم رحمةً لأمته، لأنه علم أنه لابد أن يشهد عليهم بعملهم، وعملهم قد لا يكون مستقيمًا فقد يفضي إلى تعذيبهم، والله أعلم.
وفي الحديث: استحباب عرض القرآن على الغير، وجواز الأمر بقطع القرآن للمصلحة.
447- وعن أنس رضي الله عنه قَالَ: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، فقال: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَليلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» قَالَ: فَغَطَّى أصْحَابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وُجُوهَهُمْ، وَلَهُمْ خَنِينٌ. متفقٌ عَلَيْهِ. وَسَبقَ بَيَانُهُ في بَابِ الخَوْفِ.
في هذا الحديث: بيان أن من كان بالله أعرف كان منه أخوف قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28].
448- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْعِ، وَلا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في سبيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ).
في هذا الحديث: فضل البكاء من خشية الله تعالى، لأن الخشية تحمله على امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، فلا يدخلها بوعده الصادق إلا تحلة القسم.
449- وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ: إمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إنِّي أَخَافُ الله، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُه مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِيًا ففاضت عَيْنَاهُ». متفقٌ عَلَيْهِ.
450- وعن عبد الله بن الشِّخِّير رضي الله عنه قَالَ: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي ولِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المِرْجَلِ مِنَ البُكَاءِ.
حديث صحيح رواه أَبو داود والترمذي في الشمائل بإسناد صحيح.
في هذا الحديث: دليل على كمال خوفه صلى الله عليه وسلم، وخشيته لربه، وذلك ناشئ عن عظيم الرهبة والإِجلال لله سبحانه وتعالى.
451- وعن أنس رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأُبَي بن كعب رضي الله عنه «إنَّ الله عز وجل أَمَرَنِي أنْ أقْرَأَ عَلَيْكَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَروا...}» قَالَ: وَسَمَّانِي لك؟ قَالَ: «نَعَمْ» فَبَكَى أُبَيٌّ. متفقٌ عَلَيْهِ.
وفي رواية: فَجَعَلَ أُبَيٌّ يَبْكِي.
بكاء أُبَيّ رضي الله عنه فرحًا، وخشوعًا، وخوفًا من التقصير، واستحقارًا لنفسه، قيل: الحكمة في تخصيصها بالذكر لأن فيها {يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً}، وفي تخصيص أُبَيّ التنويه به في أنه أقرأ الصحابة.
وقال ابن كثير: قرأها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة إبلاغ، وتثبيت، وإنذار، لا قراءة تعلم واستذكار، كما قرأ على عمر بن الخطاب سورة الفتح يوم الحديبية.
452- وعنه قَالَ: قَالَ أَبو بكر لِعُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنهما، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: انْطَلِقْ بِنَا إِلى أُمِّ أيْمَنَ رضي الله عنها نَزورُهَا، كَمَا كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَزُورُها، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فقالا لها: مَا يُبْكِيكِ؟ أمَا تَعْلَمِينَ أنَّ مَا عِنْدَ الله تَعَالَى خَيرٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ! قالت: إني لا أبكي أني لا أَعْلَمُ أنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَلكِنِّي أبكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَد انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ؛ فَهَيَّجَتْهُما عَلَى البُكَاءِ، فَجَعَلا يَبْكِيَانِ مَعَهَا. رواه مسلم، وقد سبق في بابِ زِيارَةِ أهلِ الخَيْرِ.
أم أيمن مولاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أم أسامة بن زيد.
وفي الحديث: جواز البكاء حزنًا على فراق الصالحين، وفقد العلم.
453- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ، قِيلَ له في الصَّلاَةِ، فقال: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ». فقالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَرَأَ القُرْآنَ غَلَبَهُ البُكَاءُ، فقال: «مُرُوهُ فَليُصَلِّ».
وفي رواية عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قلت: إنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ البُكَاءِ. متفقٌ عَلَيْهِ.
فيه: دليل على استحباب البكاء عند قراءة القرآن، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
454- وعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: أنَّ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أُتِيَ بطعام وكان صائِمًا، فقال: قُتِلَ مُصْعَبُ بن عُمَيْر رضي الله عنه وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، فَلَمْ يوجَدْ له مَا يُكَفَّنُ فيهِ إلا بُرْدَةٌ إنْ غُطِّيَ بِهَا رَأسُهُ بَدَتْ رِجْلاهُ؛ وَإنْ غُطِّيَ بِهَا رِجْلاَهُ بَدَا رَأسُهُ، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ- أَو قَالَ: أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا- قَدْ خَشِينا أنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبكِي حَتَّى تَرَكَ الطعَام. رواه البخاري.
هذا البكاء من مزيد خوفه من الله تعالى، وشدة خشيته، وعدم نظره إلى عمله.
455- وعن أَبي أُمَامَة صُدَيِّ بن عجلان الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ شَيْءٌ أحَبَّ إِلى اللهِ تَعَالَى مِنْ قطْرَتَيْنِ وَأثَرَيْنِ: قَطَرَةُ دُمُوع مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَقَطَرَةُ دَمٍ تُهَرَاقُ في سَبيلِ اللهِ. وَأَمَّا الأَثَرَانِ: فَأَثَرٌ في سَبيلِ اللهِ تَعَالَى، وَأَثَرٌ في فَريضةٍ مِنْ فَرائِضِ الله تَعَالَى». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ).
في هذا الحديث: فضل البكاء من خشية الله، والجهاد في سبيل الله، وكثرة الخطا إلى المساجد.
وفي الباب أحاديث كثيرة منها:
456- حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قَالَ: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مَوعظةً وَجلَتْ منها القُلُوبُ، وذرِفت منها الْعُيُونُ. وقد سبق في باب النهي عن البدع.
لفظ الحديث: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإِنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإِياكم ومحدثات الأمور، فإِن كل محدثة بدعة».